Headlines
Publié :samedi 2 février 2013
Par EDVAC

رواية على بعد ملمتر واحد فقط

أول رواية تفاعلية للكاتب المغربي "عبد الواحد استيتو"






يرشف كأس الشاي الساخن ببطء وينظر إلى سقف الغرفة متأملا. الغرفة عالمُه والسقف سماؤه. يقضي هنا كل يومه، بل 
ونصف ليله. 

عاطلٌ هو، غير يائس وغير متفائل. يعتبر نفسه شخصا محايدا. لقد كفّ عن التفلسف منذ مدة. فقط يجلس ويُــفسبك. يبحر في عالم الفيسبوك ليل نهار. يقتل الوقت. يقتله الوقت.

لديه 2111 صديق لحد الآن لا يعرف عُشرهم لكنهم يؤنسون وحدته.. يملئون فراغهُ الذي فرغ من كل شيء منذ تخرّج.. هكذا، مثل بالونة شككتها بدبوس فأصبحت كجــِلد عجوز في الغابرين.

درسَ. اجتهدَ. تفوق أحيانا. اجتاز الأمر بصعوبة في أحيان أخرى. ومارس هواية النقل من الآخرين أحيانا كثيرة. في الأخير نجح في التخرج بمعجزة ما. هو ابن بيئته ولا مفر له مما يحدث. أحيانا يشعرأنه مجرد كرة بين أقدام لاعبين، يتقاذفونها كما يشاؤون دون أن تمتلك – هي – حيلة أو تهتديَ سبيلا.

يطلق زفرة قوية، حارّة كشهر غشت. يعيد رشف الشاي ويقرأ بضع تعليقات على ما كتب على جداره الفيسبوكي.

" محاولة فاشلة للتذاكي.. هل كتبت ما كتبت لأنك تؤمن به أم لأنك تريد أن تظهر لنا أنك حكيم زمانه"

كتبت له إحدى "صديقاته" التي لا يعرفها هذا التعليق على جملة كان قد كتبها في جداره. تقلصت ملامحه. يكره هذا النوع السلبي من البشر.

آخر ما يحتاجه في هذا الوقت بالضبط هو أن ينزل أحدهم بمعنوياته إلى الحضيض. في قرارة نفسه يعرف أنها قد تكون صادقة، لكن مزاجه بعيد جدا على قدرة المحاورة أو الرد. المسألة بسيطة جدا ويفعلها في كل مرة دون تردد. هكذا تجري الأمور في الفيسبوك.. سلسة وسريعة. اضغط زرّ "امسح" وينتهي الأمر إلى الأبد.

بشكل ما، بطريقة ما، دون سبب معقول إطلاقا.. توقفت سبابته على بعد ملمتر واحد من زر الفأرة. تردد لثانية واحدة، ثم قرر التراجع والرد عليها.

كتب في رده " حسنا.. حسنا.. أنا أعرف هذا النوع من البشر.. أنت لا تعلقين أبدا.. أنت تقبعين منتظرة مثل هذه الفرص كي تفرغي كل ضغوطك وعقدك في أحد الفيسبوكيين، ويبدو أن اليوم كان دوري في خطتك الأزلية لتصيد الضعفاء الذين يحبطون بسهولة!! يمكنك أن تكتبي ألف تعليق مثل هذا، لكن الحقيقة أنني لا أعبأ.. للأسف".

ردّت عليه. ردّ عليها. خفت حدة الحوار تدريجيا. توادعا بأدب وبدون مودة. لم يتفقا على لقاء. لم يهتم كثيرا هو بالحديث الذي دار بينهما، لكنه شعر أنه استعاد بعض الثقة التي كان سيخسرها لو انتصرت عليه في حوارهما السريع. لم يرفع الراية 

البيضاء ولم يدخل في معركة من الأصل

انتهى الأمر بتوقيع معاهدة سلام غير مكتوبة معها. ابتسم ابتسامة رجل راض عن نفسه. لقد نجا من ليلة اكتئاب فيسبوكية حادّة. هكذا قال لنفسه قبل أن يقهقه بقوة ويدير ظهره لجهاز الكمبيوتر ولجدار الفيسبوك، وينظر إلى ذلك الشق 
.في حائط جداره، ويضم الوسادة بقوة إلى رأسه كما يفعل دائما منتظرا حدوث معجزة النوم. وغدا يوم آخر




-2-

صباح جديد. الحقيقة أنه ليس جديدا تماما، بل يشبه ما سبقه من صباحات. فقط، سينقص يومٌ من عمره، وسيزداد دفتر الديون لدى بقال الحي امتلاءً. 
كان أول ما فعله هو أن مدّ يده وأشعل جهاز الكمبيوتر كما تعوّد دائما. بتثاقل نهض إلى الحمام وغسل وجهه بسرعة محاولا ألا يستطيع شعورُه الانتباه إلى برودة الماء الشديدة. مسح وجهه ونظر إلى المرآة المتكسرة والمليئة بالبقع. قضى بضع دقائق حتى استطاع رؤية كل وجهه، فالمساحة الصالحة المتبقية من المرآة قطرها بضع سنتمترات فقط.
نزل الدرج المهترئ الذي يحفظ تضاريسه عن ظهر قلب. استعدّ لواحدة من اللحظات التي يكرهها في اليوم كله. طلب من البقال علبة شاي وقطعة جبن وهو يفتعل اللامبالاة. حاول أن يداعب أنف طفل كان بجواره فكاد يقضم إصبعه. سمع البقال وهو يدندن بكلمات مفادها أن ديونه قد ازدادت كثيرا وأن الوقت آن لينتهي هذا العبث. لم يحاول حتى الالتفات إليه وهو يمد يده إلى بضاعته ويسحبها وكأن شيئا لم يكن.
عزة نفسه تتخلى عنه تدريجيا. شاء أم أبى فقد أصبح رجلا غير مرغوب فيه في أماكن كثيرة. أي مصائب أخرى قد ترغمه الحياة على ارتكابها؟ تساءل في نفسه.
اشترى قطعة من "الحرشة" بــ 3 دراهم كانت هي كل ما تبقى له، ثم عاد إلى البيت ليعيش أجمل لحظاته إلى جوار عالمه الافتراضي. هنا لا أحد يعرفه إلا القليل. لا أحد يعرف أنه عاطل. لا أحد يعرف أنه مديون. لا أحد يعرف أن يداه قد ترِبتْ.
العالم الفيسبوكي الأزرق يفتح ذراعيه له من جديد. الكأس في اليد وقطعة "الحرشة" في اليد الآخر، والأصابع – رغم ذلك – تتحرك بيسر وسهولة بين أزرار لوحة المفاتيح.
يعلق على بعض المستجدات، ويفكر في كتابة خاطرة مناسبة للوضع الذي هو فيه. قبل أن يفعل سمع صوت نقطة المياه إذ تهوي في سطل.. كان هذا صوت رسالة فيسبوكية آنية...
- صباح الخير
- صباح النور
- تذكرني؟
- أكيد.. المعلقة المتحذلقة؟ ( أمزح)
- نعم..هي أنا.. كيف حالك؟
- أنا بخير.. لدي كل ما أريده في هذه اللحظة.
- يسعدني أنك قادر على الدردشة بالفصحى.. تزعجني كثيرا تلك "العرنسية" التي يستعملها البعض (مزيج بين الفرنسية والعربية).
- لازلت أجد متعة كاملة في استعمال الفصحى.
- أنا شبيهتك.
- .....
- لازلتَ غاضبا مني؟
- إطلاقا..
- يسعدني ذلك..
- وأنا من السعداء بمعرفتك..
- لست من النوع الذي يطلب من الآخرين تقديم سيرة ذاتية عن أنفسهم، لكنني أتمنى أن أعرف عنك أكثر.
- صعبٌ هذا في ظل وجود صورة ممثلة هندية في "بروفايلك".. قد تكونين رجلا وجد أن قمة التسلية هي الدردشة معي.
- تريد أن تقنعني أن صورة بروفايلك هي صورتك الشخصية؟
- أبدا.. ولمَ أفعل؟ صدقي أولا تصدقي.. ذلك فعلا شأنك الخاص.
- حسنا، لا تغضب. تبدو وسيما فعلا.
- ذلك نقشٌ لا يد لي فيه فعلا..
- تواضعٌ هوَ؟
- بل إدراك لتفاهة الإعجاب بشيء لا أمتلك في صنعه قطميرا!
- حسنا.. أعدك أن أضع صورتي في المرة القادمة.. مضطرة الآن للمغادرة..
- إذنك معك.. تفضلي.
عم الصمت من جديد. انتهى الصخب الإلكتروني كما بدأ. شعر ببعض الوحشة. لم يفهم كيف ملأت تلك المجهولة عالمه فجأة! ليس متسرعا أبدا. بل هو ممتلئ حدّ التخمة بتجارب تجعله يكره التسرع. لكنه – بينه وبين نفسه – اعترف أن شيئا غامضا وغريبا يلوح من هذه المرأة. وليخرج من أسر هذه الأفكار أطلق بسبسة صغيرة، واتجه إلى ركن يطلق عليه إسم المطبخ مجازا. من مكان ما خرجت قطة تتعثر في مشيتها. عرجاء وعوراء. لهذا السبب بالضبط اختار أن يربيها. لكــَـمْ كره أولئك الذين يهتمون بالقطط الجميلة فقط. ما ذنب القبيحة؟ ما ذنب المريضة؟ الناس يفتعلون الطيبوبة والإنسانية بينما كل ما يهمهم هو إرضاء ذواتهم في الآخرين. حتى لو كان هؤلاء الآخرون حيوانات. " يا إلهي.. أنظروا إليها كم هي جميلة!". تقول إحداهن هذا وهي تضم يديها إلى صدرها وكأنها ملاك. فقط لأنها جميلة تهتم بها. يا له من منطق! الحقيقة أنها تريد أن تبدو في مظهر الرقيقة على حساب القطة. هكذا فكر. هذا النفاق البشري يصيبه بالغثيان. انحنى ووضع قطعة الجبن الأصفر جوار   القطة التي بدأت تلحسه بامتنان. ربت على رأسها وعاد إلى عالمه الأزرق

3











-4-

يضم معطفه بقوة إلى صدره وهو يتأمل النوارس التي تلهو بالقرب منه وتتسلى بتبادل الصياح بينها. شاطئ طنجة شبه خال. البرد منع الكثيرين من الخروج. هو آثر أن يمر على البحر ليحادثه قليلا كعادته قبل أن يعرج على شارع البوليبار ليلتقي هدى بمقهى الشنزيليزيه.
قضى ليلة نابغيّة وهو يقدم فكرة ويؤخر أخرى. لقاء أنثى يشترك معها في أفكار كثيرة يبدو مثيرا، لكنه غير مستعدّ تماما لأية بدايات في هذه اللحظة. سفينة عمره تطفو- الآن - فوق بحر هادئ من السطح، متلاطم من الداخل. وهو لا يريد للأمواج أن تبرز على السطح.. على الأقل في هذا الوقت. لكنه في الأخير حسم أمره وقرّر اللقاء مع الاحتفاظ بسلاح مهمّ في جيب مشاعره: التحفظ.
ما لا تعلمه هدى أيضا أن مجرد لقائه معها سيكلفه بعض المال الذي لا يملكه. لهذا، اتصل في الصباح بصديقه "منير".
- صباح الزفت.
- علينا وعليك.
- قل لي، كم رأسمالك الحالي؟
- 350 درهم هي كل ما أملك.. لماذا؟
- حسنا، أحضر لي 300 درهم، أحتاجها للأهمية.
- لكن.. لن يبقى لي سوى 50، وكنت أريد...
- سأنتظرك في البيت في الواحدة زوالا..
قبل الواحدة بقليل كان "منير" يدفع الباب الموارَب ويدخل. تبادل بعض اللكمات مع خالد على سبيل التحية. قبل أن يبدأ بشكوى طويلة حول حاجته إلى المال وخالد صامت تماما يواصل حلق ذقنه.
- هل انتهيت؟
- نعم..
- حسنا، ضع 300 درهم فوق المائدة، وانصرف أو ابقَ معي إن شئت.
- بل سأنصرف.. لدي مشاغل عدة.
- إذن، توكّـل على الله.
- سأفعل، لعنة الله على صداقة الأوغاد أمثالك.
يقهقه خالد. يرفع منير كتفيه مستسلما ويضع المبلغ على المائدة ثم يسأل:
- متأكد أنك لا تريد أكثر؟
- لا.. يكفي هذا..
يغادر منير فيتنهد خالد مغمغما "الله يحشرنا مع الدراوش".. منير هو صديق طفولته. يشتغل بالنجارة ولا يفهم لا في الأدب العربي الذي أ ُجيز فيه هو، ولا في غيره. مستواه التعليمي بسيط، لكنه تشرّب معاني أصيلة من بيئته فكان له نعم الصديق دائما. الأغنياء الذين صادقهم لفترات قصيرة كانوا يخذلونه دائما. هناك ارتباط عجيب بين الثراء والخسّة.. المصيبة أن جل الأصدقاء الأثرياء الذين عرفهم كانوا بالكاد يصمتون من الحديث عن الدين وفعل الخير، وبمجرد ما يحتاج أحدهم ينكص على عقبيه ويستغشي ثيابه. بينما البسطاء كانوا دائما يصدمونه بكرمهم وبأخلاقهم. مع منير لا يحتاج للافتعال أو لادّعاء أي شيء. يتصرف كما هو. يعلم أن منير لو لم يكن معه سنتيم واحد فسيذهب ليستلفه كي لا يترك صديقه في ورطة.
ردد من جديد "الله يحشرنا مع الدراوش".
كان يفكر في كل هذا وهو يقترب من مقهى الشانزيليزي. الساعة تشير إلى الخامسة وخمسين دقيقة. أتراها سبقته إلى هناك؟
استجمع قواه النفسية كلها. التقط نفسا عميقا ثم دخل. تفحص وجوه رواد المقهى في الطابق السفلي، فلم تبدُ له هناك. صعد الدرج إلى الطابق الثاني الذي بدا له فارغا إلى من شخص واحد يجلس في ركن شبه مظلم.. أتراها هي؟
اقترب أكثر حتى استطاع الرؤية فوجد أنها هدى فعلا. بدا أنها لم تنتبه له وهي تصلح شيئا ما في حقيبتها اليدوية. فكر للحظة في التراجع لكنها رفعت رأسها في ذات اللحظة فالتقت عيناهما ولم يعد هناك من مفر من اللقاء.


-5-

ساعتان مضتا. لم يشعر إطلاقا بالوقت. التهمه الوقت وهو يلتهمُ كلماتها وسكناتِها. نزع سلاح "التحفظ" من غمده ووضعه على جنب دون أن يشعر. بدا له أنها هي أيضا استحلــَت الجلسة.
فاجأه كثيرا أن القالب الذي وضعه في ذهنه تناسب تماما مع هدى دون أن يحيد ملمترا واحدا. تخوفه وحذره اللذان رافقاه حتى مقعده غادرا بعد دقائق من بدء حديثهما إلى غير رجعة.
الحب هو تلك المجموعة من التصورات التي نضعها عن فارس – أوفارسة – الأحلام. عندما يأتي الشخص المناسب لايقوم بشيء سوى أنه يحتل تلك الصورة بجسده المادي. في قرارة نفسه يقاوم بشدة كي لا يسمي ما يحدث حبّا، لأن هذا سابق لأوانه بشدة.
يشعر بالإعجاب والارتياح وهو يحادث هدى، لكنه لا يريد أن يتورط. تجاربه في الحبّ قليلة ومعدودة. النساء اللواتي أحببنه قليلات.. لكنهن أحببنه بصدق. وهذا ما يخيفه دائما.
يعرف أن حب أي امرأة له ليس أمرا يسيرا بسبب طبعه المتحفظ. لكن عندما يحدث الأمر يكون من الصعب جدا الخلاص منه. والخلاص لا يأتي بمحض إرادته طبعا. دائما تحدث أشياء ترغمه على أن يكون هو صاحب المبادرة في إنهاء أي علاقة.. ولــَــكم عانى من هذا الأمر في كل مرة. كأنه ينزع صنارة صيدٍ عنوةَ ً من لحم جسده.
هدى مليحة القسمات بشكل كبير. جميلة؟ لا يحب هذا التعبير في الحقيقة. الجمال من وجهة نظره نسبي دائما. قطته العرجاء العوراء التي يربيها يراها هو، مثلا، جميلة جدا.
عندما تبتسم هدى تلوح في خدها الأيسر غمّازة. إحدى سنّيها الأماميتين تعتلي الأخرى بلطف. لم ينقص ذلك من ملاحتها بل زادها ألقا ً.
قال لها:
- أتعلمين أنه لولا تردّد لثانية واحدة، وملمتر واحد، ما كنت لأكون هنا؟
- حقا؟ كيف ذلك يا خالد؟
راقه أنها نادته باسمه مجردا. تنجح هي بشدة في رفع الكلفة بطريقة لطيفة قد يصعب حتى ملاحظتها.
- لقد كنت سأمسح أول تعليق لك على ما كتبت يومها في جداري على الفيسبوك.. بدا لي متحذلقا كثيرا! لكن سبابتي تراجعت في اللحظة الأخيرة بعد أن كادت تلمس زر الفأرة وتنهي كل شيء.
- يا إلهي! يالك من غليظ القلب. بهذه البساطة تمسح الأجناس اللطيفة من فيسبوكك؟
- بل قولي بهذا التعقيد. لم أصل لهذه النتيجة إلا بعد مدة طويلة من الإبحار في الفيسبوك. النقاشات الطويلة ترهقني بشدة، خصوصا أن البعض لا دور لهم في الحياة سوى إحباط الآخرين. إنهم فيسوباثيون، إن جاز هذا المصطلح.
تضحك هدى وتطوح برأسها إلى الوراء بخفة، فتتحرك مشاعره مرة أخرى. أتراها حركات عفوية أم مدروسة؟
- فيسوباثيون؟ مزيج من الفيسبوكيين والسايكوباثيين؟؟ مصطلح تستحق براءة اكتشافه.. في كل الأحوال، أنت تعلم الآن أنني لست منهم أو منهنّ. الحقيقة أنني كنت أتابع كتاباتك على جدارك لمدة، وكنت معجبة بها جدا.. وكان لا بد لي من تعليق يستفزّك. يبدو أنني نجوت من الحذف بسبب ترددك ذاك.
- إذن لم يكن مرورك محض صدفة..
- طبعا لا.. كما قلت لك. أنا معجبة بما تكتب منذ مدة. كنت أقول لنفسي أن كاتب هذه الأفكار إما أن يكون مؤمنا بها، فهو بالتالي شخص أكثر من رائع. أو أنه يردّد كلاما من أجل الحشو ومل الفراغ الفيسبوكي..
- وماذا اكتشفت؟
خفضت عينيها ثم رفعتهما. التقت عيناهما للحظات. مرة أخرى، تعبر تلك القشعريرة من وراء ظهره حتى إخمص قدميه. تفتعل هي اللامبالاة وتحرك ثمالة قهوتها.
- قلت لي أنك تقطنين لوحدك.. أين أسرتك؟
- أسرتي تقيم ببلجيكا.. لم أشأ أن أخبرك في بادئ الأمر كي لا يؤثر الأمر على مسار علاقـ.... أقصد مسار تعارفنا. أنا الآن، أمضي بضعة أشهر هنا من أجل النقاهة. حصلت على إجازة مرضية من عملي فاخترتُ أن أمضيها في المغرب.
- لعلّك اعتقدت أنني سأكون من الباحثين عن "أوراق" بلجيكا؟
- لا، أرجوك. لا تفهم الأمر بهذا الشكل. فقط لكل حادثة حديث. الآن جاء الوقت لأخبرك.
- لا عليك. لم أكن يوما من المهتمين بالهجرة.
- أعرف هذا وليس من الصعب عليّ استنتاجه يا عاشق طنجة
لحظات من الصمت كانت تغلف لقاءهما أكثر من مرة. يفكر وتفكر. يبتسمان. أسعده كثيرا أنها لا تستعمل الماكياج إطلاقا. يكرهه بشدة ويكره كل الروائح المنبعثة عن طلاء الأظافر وأحمر الشفاه وكل عائلة التزوير غير المحترمة.
خرجا من المقهى. طلبت منه أن توصله إلى البيت بسيارتها فأبي.
- أصررت على الدفع في المقهى والآن تأبى الركوب. رجل شرقي أنت.
- بل رجل طنجاوي.
- يقتلني غيرة حبك لطنجة.
- تقتلني غيرتك من مدينة.
- المدينة أنثى. والأنثى تغار من كل ذات تاء تأنيثٍ تزاحمها في رجل.
- في كل الأحوال، أنا أقطن قريبا من هنا.. في حي إسبانيول.
- أعلم طبعا.
توادعا. تواعدا بلقاء آخر. بدت له سيارتها رقيقة مثلها. ضغطت دواسة البنزين ولم تنس أن تلوّح له بكفها برقة مع ابتسامة مصنفة بين أسلحة الدمار الشامل.
عاد إلى شقته منهكا تماما. كم المشاعر الذي تزاحم اليوم في فؤاده لم يعش مثله منذ مدة. أيّ فوضى تخلقها الأنثى في الرجل؟! حتى شقته بدت له مختلفة تماما.
سقط كالمغشي عليه فوق سريره. قطته كأنما استشعرت أحاسيسه. تنظر إليه بعينها الواحدة في حنان مشوب بحذر. حملها بيده ووضعها عند قدمه. تكومت على نفسها وازدادت التصاقا به، بينما بقي هو يتأمل القمر الذي يحاول تفادي سحب عابرة







-6-



طرقٌ خفيف على الباب. ينهض خالد من سريره بين حلم ٍ ويقظة. بقايا حلم لازالت تتابعه حتى الباب. يقف قليلا ليقاوم ترنحه. يعتدل ثم يمسّد شعره في حركة تلقائية لا تغير شيئا من حالته، ويفتح الباب.
- آه.. صباح الخير.. مرحبا "عْــزيزة رحمة".. تفضلي.
- لا..لا وقت لدي يا ولدي.. لقد أعددت بعض "الحلوى د كيكس" واحتفظت لك بحقــّــك.. أعرف أنك تستطيبها كثيرا.
- أوه! لا أدري كيف أشكرك.. لماذا هذا التعب؟
- لا تعب هناك يا ولدي.. أنت لا تدري أي أفضال لوالدتك عليّ وأي عِشرة ومودة كانت بيننا.. رحمها الله.. الطيبون يرحلون تباعا ً.. أنت بعضٌ منها ومن الزمن الطيب..
- "الله يرحم الوالدين".. ألن تدخلي على الأقل لترتاحي من الطوابق الستة التي صعدتيها للتوّ.. أنت تلهثين..
- لا عليك.. لازال أمامي عمل آخر.. الطوابق التي ذكرتَ سأنظفها درجاتها كلّها بعد قليل.. فلا تقلق على جدّتك.. فقط، أنت حاول ألا تنهي الحلوى كلها هذا اليوم.. أعرف هوسَك بها!
- لا أستطيع أن أعدك بشيء.
تستدير "رحمة" في بطءِ امرأةٍ جاوزت السبعين وتلوح بيدها دون معنى، ويتأملها هو في حزن مشوب بكبير مودّة. رحمة من القلائل – والقليلات – الذين لايزالون يقطنون بذات العمارة منذ عهد الاحتلال الإسباني لمدينة طنجة. عملت مع الإسبان آنذاك كحارسة للعمارة، وبقيت فيها تعتني بها وتراقب خلق الله وهم يجيئون يروحون.
- أي تاريخ تحكيه تجاعيد وجهك يا "عزيزة رحمة"؟ يقول خالد لنفسه.
سكان الحي كلهم ينادونها "عزيزة رحمة". مع أنه لا حفيد لها، لكن الكلّ يعتبرها جدته. حتى القادمون الجدد يفعلون ذلك. إنها المرأة الطيبة القادمة من عالم طاهر يأبى أن يتلوث.
رسالة جديدة على بريده الإلكتروني:
------
" إلى الكاتب المحترم خالد.أ،
نشكر لك مساهمتك الأدبية القيمة معنا، ونرسل لك طيّه تفاصيل التحويل البنكي والذي قيمته 350 دولار، وذلك عن 4 قصص قصيرة كنت قد نشرتها بمجلتنا.
نشكركم جديدا، ودمنا على تواصل.
إدارة مجلة "المبدعون"
---------
يقرأ خالد الرسالة الإلكترونية مرات ومرات ودقات قلبه تتسارع. ضاقت فلما استحكمت حلقاتها، جاءته رسالة البشرى تمشي على استحياء. أخيرا سيستطيع أن يتحرك بحرية من جديد، على الأقل لفترة. مذلة النهار وهمّ الليل سيرحلان.
هذه من الفوائد القليلة التي يجنيها من وراء عشقه للكتابة. لماذا نكتب؟ السؤال الكبير يجيب عنه هو، وهو يزدرد الحلوى: لكي تصلنا الدولارات المحترمة طبعا! ثم يضحك ملء فيه.
فتحت الرسالة شهيته للأكل، فالتهم طبق الحلوى مع كأس الشاي وهو يفكر أن عليه أن يذهب الآن للبنك ليتأكد أن الأموال قد حوّلت فعلا. تصفح أحد المواقع الإخبارية المحلية كعادته بسرعة فوقعت عيناه على خبر أثار استغرابه وغضبه:
" علم موقع "طنجة الآن" قبل قليل أن عصابة أجنبية استطاعت سرقة لوحة ثمينة تعرف ب"الموناليزا المغربية" من المتحف الأمريكي بالمدينة (المفوضية الأمريكية سابقا).
وقد ذكر مصدر أمني مطلع أن السرقة تمت بطريقة أفلام هوليود، حيث استعملت عصابة متنكرة مكونة من 3 أشخاص غازا مخدرا، قبل أن تسرق اللوحة وتغادر المكان بكل هدوء..
تفاصيل أخرى نوافيكم بها بعد حين... "
هذا ماكان ينقصك يا طنجة. أن يسرقوا بقايا بقايا جمالك. كان قد قرأ يوما أن هذه اللوحة هي لفتاة من طنجة إسمها "الزهرة"، ورسمها فنان اسكتلندي إسمه جيمس ماكباي سنة 1952. الزهرة – حسب قراءاته – لازالت حية لحد الآن وأحفادها يعيشون بالولايات المتحدة الأمريكية.
الحمد لله أنهم لم يؤذوا أحدا. قال هذا لنفسه هذا وهو يرتدي ثيابه استعداد للخروج، قبل أن يضرب على رأسه بقوة وكأنه تذكر شيئا..
- لم يؤذوا أحدا؟ يا إلهي، لقد نسيت تماما أن صديقي "المهدي" يعمل كحارس أمن خاص هناك.. أي فاقد للذاكرة أنا!!
حاول أن يتصل فأبى الهاتف إلا أن ينطفئ بسبب ضعف البطارية. فكر أنه فعلا فيلم هوليودي بالنسبة لكل الأطراف. وضع الهاتف في جيبه، ثم حمل طبق الحلوى الذي لم تعد فيه سوى النقوش التي تزينه، كي يعيده لصاحبته، وهو يغمغم:
- قلت لك يا "عزيزة رحمة" أنني لا أستطيع أن أعدك بشيء.
نزل درجات الطوابق الست متجاهلا المصعد الذي يعمل مرّة كل 365 يوما. سلـّـم الصحن لرحمة التي وجدها تنظف درجات الطابق الثالث، فابتسمت ولم تعلق. بل إنها بدأت تدعو معه بالتوفيق بينما هو يواصل نزوله السريع حتى غاب صوتها عن مسامعه تماما


-7-

يلهث خالد وهو يسرع الخطى للوصول إلى المتحف الأمريكي. أسعده أن الخبر يفـيـدُ أنْ لا أحد تأذى مبدئيا، لكنه كان قلقا على صديقه. لا يخشى على صديقه من الأذى النفسي في الحقيقة، فهذا ترفٌ ليس من حقه.. الأذى النفسي متروك لفئة أخرى من الناس. الفئة التي تذهب إلى الطبيب بمجرد ما تشعر ببعض العياء.. من اكتشافاته الجديدة أن هناك مرضا إسمه "لافاتيك". إن كان قد نجح في الترجمة فهم يقصدون "التعب".
التعبُ مرض.
المشيُ رياضة.
يالها من روعة! هو يعتبر المشي عملا يوميا لا يلتفت إليه، وهو بالنسبة للآخرين رياضة. لكلّ ٍ وجهة هو مولّيها.
فوجئ بالعدد الكبير من المحيطين بمكان الحادث. يعرف أن ثلاثة أرباعهم فضوليون ولا يهتمون إطلاقا بالحدث نفسه، سوى ما سيعودون به في جعبتهم كي يرووه لأصدقائهم وهم يجلسون في رأس الدرب عندما يدلهــــمّ الليل. اخترق الجموع بصعوبة قبل أن يصل إلى حاجز أمني حديدي.
أوقفه رجل شرطة بيد حازمة صارمة. يمنع الدخول منعا باتـّـا. قال له هذا والتفت إلى زميله يواصل حديثا بُـــتر فجأة.
يرتكب المرء حماقات كثيرة في شبابه، من بين هذه الحماقات إصدار جريدة أدبية من مصروف جيبه. لكن.. في مواقف كهذه يتضح أن بعض الحماقات أفضل من بعض. بل إن بعضها يكون مفيدا جدا أحيانا. لذا أخرج خالد بطاقة الجريدة التي كان قد أصدرها ذات جــــنون، وأشهرها في وجه الشرطي.
- أنا صحافي، أريد أن آخذ بعض المعلومات المتعلقة بالحادث. لن أصوّر شيئا. فقط سأحاول معرفة تفاصيل الحادث.
بدت الحيرة على وجه رجل الأمن وهو يتأمل البطاقة. اقترب منه صديقه وهو يرسم على وجهه علامات الحكمة. داعب ذقنه وهو يتفحص البطاقات من وراء كتف رفيقه.
- هممم.. أنت مدير تحرير جريدة "ألف باء"؟!! لا بأس، دعه يمرّ.. لكن، أنت، لا تتأخر كثيرا بالداخل.
- لا إطلاقا، فقط سأنجز مهمتي وأرحل.. أنت تعرف أننا في "ألف باء" لا بد أن نكون سباقين إلى الخبر.
- هيه.. نعم نعم.. هيّا.
كادت تفلت منه ضحكة. يبدو أن حماقته كانت عاقلة تماما لأنه اختار اسما لا يوحي بطبيعة الجريدة الأدبية.. "ألف باء".. إسم أينما وضعته يأتي بخـــيْر.
واضعا جبينه بين سبابته وإبهامه كان يجلس "المهدي" والعياء واضح جدا على جسمه الذي بدا متهالكا. اقترب منه خالد ووضع يده على كتفه مواسيا.
يعلم أن الكلام في مثل هذه المواقف يكون أحيانا مجرّد عبء آخر يُضاف إلى المصيبة.. لذا ترك "المهدي" يأخذ المبادرة، وهو يجلس بجواره على الأرض..
- لماذا أتعبت نفسك وأتيت.. من السهولة أن تتورط في أي مصيبة في حدث كهذا أيها الأحمق؟
- لا مصيبة أعظم من تعرض صديق للخطر، بينما تبقى أنت جالسا تقرأ الخبر وتداعب أصابع قدميك وكأن الخبر لا يعنيك...
- ما أطيبك!
- يا خبيث.. طمئني عليك.. لم يتأذ ّ جسدك؟
- لا، إطلاقا.. أطلقوا غازا مخدرا بالكاد يُـــرى.. لم أشعر بنفسي إلا وهم ينعشونني. هناك بعض الدوار الآن فقط، لهذا لم يأخذوني إلى المصحة.
- هذا تطور خطير، جريمة منظمة في قلب طنجة.. ومن أجل لوحة فنيّة؟ يبدو هذا كواحد من أفلام الإثارة..
- كانوا ثلاثة أشخاص بمظهر سياح عاديين جدا.. يصعب جدا أن تشك في أمرهم.
شعر أن صديقه يشعر بتأنيب ضمير باعتباره حارس أمن المكان. قال له:
- لم يكن لأي شخص آخر أن يدرك نواياهم. أنت – وكل من هو مكانك – تحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
- هم ينتظرون مني أن أعرف حتى السرائر.
- حسنا.. أهم ما في الموضوع الآن أنك بخير.. سأتركك الآن وسأتصل بك فيما بعد. أعتقد أنه سيكون أمامك يوم طويل..
- بدون شك.. الكاميرات الموجودة ستحكي لهم كل شيء. لكنهم سيتلذذون بالتحقيق معي. أعرف هذا.
- لا عليك.. صبرٌ جميل.
- هو ذاك.
غادر المكان وهو يتأمل الفوضى البشرية العارمة. سبق له أن زار هذا المكان يوما ويذكر وقتها أنه بقي لدقائق طويلة يحاول أن يفرّ من نظرات "الزّهرة" (الموناليزا المغربية). كان يحاول أن يثبت أن هناك خللا في "موناليزيتها".
ذلك العناد الطفولي والرغبة في إثبات أن كل ما لدينا لا يساوي شيئا أمام ما يأتي من العالم الخارجي. كان هذا قبل أن تزيده سنوات العمر حكمة ويعرف أن ما لدى مدينته ووطنه من قيم وآثار وتقاليد، لو وُزّع على العالم لكفاه.
أخرج هاتفه من جيبه ليعرف الوقت فتذكر أن بطاريته قد فرغت. تذكر أيضا – فجأة – موعده الذي نسيه تماما مع هدى في مقهى "فيلا جوزفين" بمنطقة الجبل الكبير.
- ربّاه! كيف نسيت هذا.. !!
تذكر أن هدى طلبت منه أمس في حوار فيسبوكي سريع أن يكون لقاؤهما صباحيا بتلك المقهى كي يستمتعا بالنظر إلى طنجة وهي تتمطى وتنفض عنها غبار الكسل وبقايا قطر الندى.
اتفقا على أن تكون الحادية عشر صباحا موعدهما. سأل أحد المارين عن الوقت فأجابه أنها الحادية عشرة وثلاثين دقيقة. لقد تجاوز الموعد بثلاثين دقيقة. شعر بكره شديد لنفسه. يكره أن يتركه أحدهم ينتظر حتى ولو كان صديقا، فما بالك بامرأة تنتظر رجلا تعرّفت عليه للتوّ؟!
استقل سيارة أجرة. استأذن السائق في منتصف الطريق كي يسحب أمولا من الشباك الأتوماتيكي. بعد خمسة عشر دقيقة كان قد وصل المقهى. قبل أن ينزل قال له سائق التاكسي:
- ألا تعتقد أنني على حق، وأنهم ظلموني؟!
آه!! إذن فقد كان السائق يتحدث طوال الطريق! كيف صمّت أذنيه عنه؟ لقد كان جسده هناك، لكن روحه كانت تجالس هدى في المقهى معتذرة منها طالبة الانتظار لدقائق.
أجاب خالد:
- طبعا أنت على حقّ.. الناس أصبحوا وحوشا في هذه الأيام، لا يقدرون الطيبين أمثالك.
- بالضبط.. هذا ما أقوله لهم.
دخل المقهى. تفحص وجوه الجالسين في الشرفة.. لا أثر.
فعل نفس الشيء في الداخل .. لا أثـــر.
أين أنت يا هدى؟ أتراك تظنينني الآن واحدا من الذين يقولون ما لا يفعلون؟ أسوأ الناس طرّا المخلفون وعودهم. والآن أنا واحد منهم في نظرك. المصيبة أن هاتفك مقفل. أهي عقوبة؟!
كان قد التمس من نادل المقهى أن يشحن هاتفه المحمول ففعل.
يحاول الاتصال مرات ومرات دون جدوى.
جاء المساء بسرعة. استسلم الضياء لسلطة الليل البهيم. عاد هو إلى شقته وفتح حساب الفيسبوك منتظرا أن تظهر هدى في أية لحظة.
الفيسبوك خال مقفر كأرض شهدت نهاية حرب للتوّ. الرياح تصفـّر في العالم الافتراضي الأزرق. رياح كئيبة.
يبدو أن ما كان يخشاه قد وقع.
هناك دائما أسوأ من الأسوأ...
أسوأ من عدم وجود علاقة.. علاقة ٌ مبتورة.
أسوأ من الغياب.. غيابٌ لا تستطيع أن تُدرك صاحبه.
أسوأ من الوحدة.. أنيسٌ يغيب فجأة بسبب غير مقصود.
يزفر زفرة مليئة بتعب النهار وحنقه وحزنه، ويتساءل: بالله عليك.. أين أنت يا هدى؟!!


الفصل الثامن
----------------
(1)
"هؤلاء الرجال الوحيدون؟
من أين يأتون؟
ولأين ينتمون؟"
هائم على وجهه.. أشعث.. أغبر.. نحيف جدا.. ميت حي.. شبه رجل. لا هدف له إطلاقا. لا رغبة في فعل أي شيء. يبحث ذات اليمين وذات الشمال، صعودا ونزولا، ركوبا ومشيا على الأقدام، عن شيء واحد فقط.
يكره نفسه. يكرهه الآخرون. هذا لا يهمه. لديه هدفه الأسمى الذي يعيش/يموت من أجله. يهرش جسده وهو يتمشى بشارع المكسيك بطنجة، حيث خفّت حركة المشاة والمتسوقين والمتسكعين أيضا مع اقتراب منتصف الليل. يأخذ نفسا عميقا من بين أسنانه التي يضغطها بقوة دون إرادة.
المال.. المال.. لا يريد غيره الآن. المال الوحيد الذي يستطيع أن يوقف هذا العذاب. بالمال يشتري "الغبرة" (المخدرات الصلبة). وباستنشاق الغبرة السوداء ينتهي العذاب ويتوقف دمه عن طلبه المتزايد للمادة.
هاهي ذي الضحية المناسبة.. تتحدث في هاتفها بكل ثقة، وهي تهم بركوب سيارتها. هذه غرّة أخرى تتصرف وكأنها محاطة بكتيبة من رجال الأمن. يلتفت ذات اليمين وذات الشمال باحثا عن الفجوة. والفجوة كبيرة جدا في الحقيقة لأن المكان شبه خال. يحاول أن يتصرف بهدوء وبشكل طبيعي. هي تعطيه ظهرها وتواصل الحديث بعد أن اتكأت على باب السيارة المفتوح. أمامه ثوان لتنفيذ المهمة.
هوب!! الهاتف في يده وهي تمد يدها بحركة عفوية وكأنها تحاول استرجاعه بعد أن صعقتها المفاجأة. احتبست الكلمات في حلقها. هو يعلم أن الذين لم يتعودوا على هذه المصائب ولم يستعدوا لها تكون ردود فعلهم هكذا. الصمت.. الحزن.. ثم الدموع الحبيسة في المُـــقل. هي من هذا النوع كما خمّــن. 
بقيت تنظر إليه وهو يعدو متجها نحو دروب حي "المصلى" حيث يستحيل أن تتابعه بسيارتها.. 
المارّة؟ كانوا قلة.
بعضهم – ممن انتبهوا للأمر- ندّت منهم حركات خفيفة في محاولة لملاحقته، لكنه – وهو الخبير بهذه الأمور – كان يشهر في يده الأخرى سكينا مهنّدا.
اقتربوا مني وستنعمون بأولى لياليكم في المقابر. كذا يقول لسان حاله.
هكذا، استطاع الظفر بغنيمة الليلة التي سيبيعها لأول مشتر ٍ بثمن بخس دراهم معدودة.
(2)
من قال أن الرسائل في بلجيكا تحمل الأخبار الجيدة؟ لا أحد. ولن يقولها أحد يوما. كلما وجدت مظروفا فاعلم أنه يحوي مصيبة من المصائب: ضريبة، إنذار، غرامة... عبد الحق تعوّد على هذا، لهذا لم يتفاجأ كثيرا عندما فتح المظروف ووجد رسالة هي عبارة عن تذكير أخير موجه لأخته من أجل أن تتوجه إلى المصالح المختصة في أقرب وقت من أجل تمديد أجازتها المرضية. وأقرب وقت كان – للأسف - هو الغد. 
ولأنه تعوّد على هذه المفاجآت تصرف عبد الحق بسرعة. اتجه إلى جهاز الكمبيوتر وهو يدعو الله أن يجد تذكرة طائرة من طنجة إلى أي مطار قريب. الحقيقة أنه كان محظوظا. كان هناك مقعدان في رحلة السابعة صباحا من طنجة نحو مطار "شارل لوروا". لا بأس. سينتظرها هناك ثم ينقلها مباشرة إلى الإدارة المختصة كي تنهي معاملتها كي ينتهي هذا المشكل بسرعة.
قضى وقتا طويلا جدا في محاولة الاتصال بأخته قبل أن تجيبه أخيرا.
- مرحبا هدى، كيف حالك؟
- بخير.. أنتم بخير؟ ما سبب هذا الاتصال في هذا الوقت المتأخر.. أقلقتني.
- منذ منتصف النهار إلى الآن وأنا أحاول الاتصال بك.. لماذا لم تجيبي
- هاتفي مارس الهواية التي تعشقها كل الهواتف.. التحول إلى الوضع "الصامت" دون حتى أن يأخذ إذني.. 
- لا بأس.. لا بأس.. الحمد لله أنه اشتغل أخيرا.. وصلت اليوم رسالة من الإدارة المختصة بالمهاجرين تعلمك أن غدا هو آخر أجل من أجل تجديد أجازتك المرضية وإلا سيتم إلغاء التعويض..
- ماذا؟ بهذه البساطة؟؟
- ليس بهذه البساطة.. أكيد أرسلوا رسالة من قبل ضاعت في الطريق.. الرسالة الأخيرة كانت مضمونة.. أنت تعلمين أن سعاة البريد يهوون رمي الرسائل في البالوعات من حين لآخر.
- وما العمل في نظرك؟
- لقد تصرفت فعلا، وقمت بحجز طائرة لك غدا على الساعة السابعة صباحا.. سأنتظرك بمطار شارل لوروا لأنقلك إلى "أنتويرب" مباشرة كي ننتهي من هذه المشكلة.
- يا إلهي.. فاجأتني تماما..ســــ...
- هدى؟!!.... هدى؟!!... ماذا يحدث لديك؟
لم يعد يسمع سوى صوت لهاث ثم انقطع الخط. أهي مشكلة أخرى من مشكلة الهواتف الرائعة؟؟ لابأس... لقد أخبرها بالأهم.
(3)
" ما هي الهدايا التي يفضلها الرجل؟". تكتب هدى هذا في محرك البحث فلا تحصل إلا على نتائج تعتبرها بليدة. نفس الأفكار تتكرر ونفس الهدايا. ذكـّرتها الإجابات بتلك الكتب التي تحمل عناوين على غرار "كيف تصبح عالما في خمسة أيام بدون معلم". لازالت أغلب المعلومات الموجودة على النت تعامل القارئ على أنه غرّ. 
تجاهلت ما وجدت. تتجول في شارع المكسيك وتفكر في الهدية المناسبة. خالد رجل غير نمطي، غير تقليدي، ومن الحمق إهداؤه ساعة أو حذاءً. من أين لـ"غوغل" أن يعلم أي الهدايا تليق بخالد؟ ومن أين له، وهذا هو الأهم، أن يعلم أي نوع من الهدايا تريد أن تهديَ هي لخالد؟
بعد أن أنهكها البحث بشدة وجدت ضالتها. تضع الهدية في صندوق السيارة الخلفي، وتخرج هاتفها من حقيبة يدها لترى إن كان هناك أي جديد. لا تثق بالتكنولوجيا بشكل كامل، ولديها وسواس لا بأس به تجاه كل المخترعات الجديدة. 
صدق ظنـّــها. الهاتف يوجد في الوضع الصامت، بل هناك من يرن الآن والرقم يدل على أن المتصل من بلجيكا. تجيب المتصل. تتحدث وهي تفتح باب السيارة. تواصل الحديث قبل أن تشعر بأن الهاتف لم يعد هناك قرب أذنها. هناك من خطفه. ومن خطفه يعدو وكأنه الجامايكي "بولت"، والأدهى من هذا أن بيده سكينا يلوح بها أثناء عدوه.
تكتفي بالنظر إليه وهو يختفي تماما عن ناظرها.
تجلس في سيارتها شاعرة بالقهر. هذا هو حال المصائب.. لا تأتي إلا تباعا. حاولت أن تتجاوز الصدمة وهي تقود سيارتها نحو منزلها بحي البرانص.. أول ما ينبغي أن تفعله هو أن تلغي موعدها مع خالد غدا في مقهى "فيلا جوزفين" وأن تودعه، ولو فيسبوكيا.
وصلت إلى منزلها وهمت بفتح الباب، لكن حارس الحيّ اقترب منها قائلا:
- آنسة هدى، أعتقد أن شركة الكهرباء قد قطعت الكهرباء عن منزلك.
- ماذا؟ أنت لست جادا طبعا يا "السي عبد السلام"..
- الشيب لا يسمح لي بالمزاح يا ابنتي.. لقد حاولت أن أماطلهم أو أمنعهم فقالوا أن فواتير ستة أشهر لم تؤدّ بعد.
الدّوار.. الدّوار الشديد.. تمسك بمقبض الباب وتفكر في طريقة لإخبار خالد. لا حلول إطلاقا. مقاهي الإنترنت أقفلت. وإن كان هناك واحد فغالبا ستجد هناك من ينتظرها ليسرق منها شيئا آخر في هذا الوقت المتأخر.
يحدث هذا غالبا. هي تعتقد أن أخاها قد أدى الفواتير. أخوها يعتقد أن أباها قد أدى الفواتير. شركة الكهرباء تعتقد أنه عليهم أن يدفعوا أو تعلن عليهم حرب " الكهرباء مقابل المال". الحقيقة أن شركة الكهرباء هي الوحيدة التي لا "تعتقد" بل متأكدة.
فكرت في الذهاب إلى حي إسبانيول والبحث عن الشقة حيث يقطن. ستكون هدية رائعة لسكان الحي كي يلوكوا سيرته للأشهر القادمة. وربما لا يروقه الأمر إطلاقا، خصوصا أمام طبعه المتحفظ.
- اشتريت لك هذه الشمعات الأربع من باب الاحتياط.
تنتبه إلى أن "السي عبد السلام" لازال يقف بجوارها في نوع من التعاطف الصامت. 
- شكرا لك "السي عبد السلام".. رجل شهم كما عهدتك.
- لا عليك.
تدخل المنزل وتشعل الشمعة وهي تجمع على عجل حاجياتها في الحقيبة. تقرص لحمها كي تتأكد أنها لا تحلم. هل يعقل أن يحدث كل هذا بهذه السرعة؟
في المطار تحاول هدى أن تجد حلا من أجل إرسال رسالة فيسبوكية لكن جميع الخدمات تغط في نوم عميق. ليس هناك كمبيوتر عمومي للأسف. حتى الاتصال بخالد من هاتف عمومي غير ممكن لأنها لا تذكر رقمه.
لقد علمتها التكنولوجيا – كما علـّـمت جيلها – أنه لا حاجة للذاكرة إطلاقا. هناك من سيقوم بالمهمة نيابة عنك دائما فلا تبتئس وتوقف عن تشغيل خلايا مخك الرمادية. إنعم بالراحة ونحن نتكفل بكل شيء.
حسب برنامجها المفاجئ المكثـّـف، هي لن تستطيع التواصل مع خالد، إذن، إلا في المساء عندما تنهي مهمتها الإدارية.
تجلس هدى في مقعدها بالطائرة وتتأمل شاطئ طنجة الذهبي الطويل وهو يبتعد مودّعا، وتتساءل: ترى، ماذا ستظنّ بي يا خالد؟






Auteur

Ecrit parEDVAC on 2/02/2013. sous , . suivez les réponses à cette entrée via son RSS 2.0.

By EDVAC on 2/02/2013. Filed under , . Follow any responses to the RSS 2.0. Leave a response

Gagner de L'argent

Traduire

Fourni par Blogger.

    Blog Archive